كتب جمال زواري أحمد
يقول سعيد النورسي رحمه الله:(إياكم أن تربطوا الحق الذي أدعوكم إليه بشخصي المذنب الفاني ، ولكن عليكم أن تبادروا فتربطوه بينبوعه الأقدس كتاب الله وسنة نبيه ، ولتعلموا أنني لست أكثر من دلال على بضاعة الرحمن ، ولتعلموا أنني إنسان غير معصوم قد يفرط مني ذنب أو إنحراف فيشوه مظهر الحق الذي ربطتموه بذلك الذنب أو الانحراف).
يشير بديع الزمان إلى قضية مهمة وأصل ثابت كثيرا ما زلت به أقدام بعد ثبوتها وضلت به أفهام بعد سلامتها وتفرقت به جموع بعد ألفتها ، فالانحراف يقع عندما يتم ربط الحق أو الفكرة بأشخاص مهما كانت درجة صلاحهم والنظر إليهم بنوع من القداسة والعصمة ، ويصبحوا هم الذين يقاس ويوزن بهم المنهج بدل أن يكون هو الميزان الذي تحدد به قيمة الرجال ومكانتهم بمدى قربهم وبعدهم عنه ، وبمدى إلتزامهم به وتمثلهم له .
والدارس لتاريخ الجماعات المختلفة يجد أن معظم الانتكاسات والاختلالات التي وقعت والانشقاقات والاضطرابات التي حدثت في صفوفها والانحرافات المنهجية والفكرية التي ظهرت في مسيرتها منشؤها الأساسي هو التعلق بالاشخاص وإتباعهم حتى في أخطائهم ، وقد رأينا حركات بلغت من الهالة والشهرة والحضور أصيبت في مقتلها وقصم ظهرها وأفل نجمها بسبب تفشي داء الشخصانية والزعامتية فيها ، وكم من رجال كان لايتصور أن يحيدو عن الحق يوما فإذا بهم وقد مسهم طائف من الشيطان ولم يتذكروا ، وإستبدت بهم الأهواء والمطامع والشهوات ، فكانوا وبالا على الحق وأهله بعدما كانوا من جنوده بل من قادته ، وقد حفظ لنا التاريخ أن رفيق الامام المؤسس وملازمه كظله قبل التأسيس وأحد الذين كان لهم شرف السبق وأمين سر الجماعة بعد ذلك ، أي من الشخصيات الريادية في الهرم القيادي في مرحلة ولادة الدعوة قد إنفصل بعد مدة وأصبح يهاجم الفكرة والقائد ويثير الشبهات حولهما على صفحات جرائد الخصوم ، ومن على منابرهم أنذاك، ومحل العبرة هنا ليس محاكمة هذا أو ذاك فرحم الله الجميع فقد أفضوا إلى ربهم ، ولكن للتأكيد على المبدأ العام الذي أشرنا إليه وهو أن الارتباط دوما يكون بالحق والمنهج والينبوع الأصيل ، لان الرجال مهما علا شأنهم وعظمت مكانتهم ماهم إلا بشر معرضين لكل مايصيب الانسان من السهو والخطأ والانحراف ، لكن لايعني هذا الانتقاص من قيمة رجالنا العاملين ، بل الواجب إحترامهم وتقديرهم ومعرفة فضلهم وعدم بخسهم أشيائهم ، سواء كان ذلك في حياتهم أو بعد وفاتهم ، ويتأكد ذلك بعد الوفاة لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( من كان مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لاتؤمن عليه الفتنة)، فالمطلوب منا عندئذ ذكر محاسنهم وتعداد فضائلهم ومناقبهم وجلائل أعمالهم ، لان ذلك من شيم الأوفياء ، وهذا ينافي التقديس الذي تحدثنا عنه آنفا ، لاننا ندرك كل الادراك ويدرك معنا كل العقلاء أن الرجال العظام أصحاب الافكار الاصيلة والانجازات الجليلة والآثار الجميلة يموتون باجسادهم أما الافكار التي عملوا لها في حياتهم فإنها تستمر وتنمو وتزدهر وتينع وتبلغ الآفاق حتى أنها تصل إلى مواقع وتتسلل إلى إلى عقول وأذهان وتلج إلى قلوب ماكانت لتصل وتبلغ كل ذلك أثناء حياة أصحابها ، كما قال سيد قطب رحمه الله :(إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثة هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها أو فديناها بالدماء إنتفضت حية وعاشت بين الاحياء)، ومن ثم تصبح سيرتهم العطرة نبراسا للتأسي والاقتداء ، ومسيرتهم المباركة زادا لمواصلة الطريق الذي بدؤوه ، ووسيلة من وسائل التثبيت على النهج الذي رسموا معالمه وأرسوا دعائمه وأقاموا أسسه ، ودافعا قويا للوفاء لهم وللمنهج الذي إختاروه ومضوا إلى بارئهم وهم عليه غير مبدلين ولامغيرين ، بل أكثر من ذلك أن هؤلاءالرجال الكبار الذين عاشوا للحق وبالحق دون أن يدعوا العصمة يوما أو قبلوا التقديس لذواتهم الفانية ، يبقى أثرهم و تأثيرهم وعبق سيرتهم ، ويتواصل إشعاعهم ويزداد وضوحا ولمعانا وبريقا كلما بعدت الايام وإمتدت السنين من يوم انتقالهم إلى دار البقاء كما خلص إلى ذلك الراشد المرشد عمر التلمساني رحمه الله عندما قال وهو يتحدث عن الامام الشهيد حسن البنا رحمه الله :(حسن البنا كلما باعدت الأيام بيننا وبين يوم إستشهاده إزدادت شخصيته وضوحا وإشراقا ونورا وبهاء ... إنه كاللوحة الفنية البديعة ... كلما إبتعدت عنها محملقا في روعتها كلما وضح أمام ناظريك رواؤها ودقة الابداع فيها ، وحقا مامضى عام إلا إزداد تاريخ حسن البنا وضوحا في ميادين الدعوة الاسلامية ، وظهر ماأجراه الله من الخير على يديه للاسلام والمسلمين).
بقي أن نشير في الأخير مرة أخرى أن التقديس وإدعاء العصمة والارتباط بالاشخاص إنحراف ، كما أن جحود الفضل وعدم الوفاء وبخس الحقوق وجفاء المشاعر وجفاف العاطفة نحو أهل الصلاح والاصلاح إنحراف كذلك ، والخير كل الخير في العدل والانصاف ، والبركة كل البركة في التوسط والاعتدال فإنه : (إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال ، فالحق أيضا لايعرف دون وسائطهم ، بل بهم يتوصل إليه ، وهم الادلاء على طريقه) كما قال الامام الشاطبي رحمه الله في آخر عبارة ختم بها كتابه الاعتصام.
منقول للفائدة