أذاع أمس حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ المرشد العام بدعوةٍ من هيئة وادي النيل العليا لإنقاذ فلسطين الحديث الآتي:
أيها المستمعون الكرام:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فحديث هيئة وادي النيل العليا لإنقاذ فلسطين معكم الليلة عن "ثمن الحياة"، وعجيب أن يكون ثمن الحياة هو حب الموت ولا ثمنَ لها إلا هذا.
ولهذا كان فيما أوصى به أبو بكر- رضي الله عنه- خالدًا في بعض غزواته: "يا خالد أحرص على الموت توهب لك الحياة".
والقرآن الكريم يقرر أن الفناء في الحقِّ هو عين البقاء، وأن ذات الموت في سبيل الله هو حقيقة الحياة فيقول: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)﴾ (آل عمران).
وتأمل هذه الإشارة اللطيفة في تلك الآيات الكريمة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾ (البقرة)، لتعلم أن الموت ثمن الحياة، وأن حبَّ الحياة نذير الموت، وأن الأمةَ التي تريد أن تعيش كلها لا بد أن تموت كلها؛ لأنها لم تدفع من دمها ضريبة الحياة.
وليس حب الموت ثمن الحياة وحدها ولكنه ثمن الحياة، وثمن النصر وثمن العزة وثمن الخلود، وهي أطيب ما في الحياة، وهذا قانون لم يتخلف من قِبل ولا يتخلف اليوم ولن يتخلف من بعد لأنه سنة الله ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: من الآية 43).
[b]أيها المستمعون الكرام:
لقد أدرك أسلافنا هذه الحقيقة فحرصوا على الحياة العزيزة الكريمة بالإقدام على الموت في ساحات المجد والبطولة وأغراهم بذلك قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (التوبة: من الآية 111)، وقوله: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللهِ﴾ (التوبة: من الآية 41)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا" وقوله: "لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل" .
وبذلوا الثمن غاليًا من دمهم وأرواحهم، وكان أحدهم يندفع إلى القتال حاسرًا لا يُبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، أو يقذف بنفسه من فوق الأسوار على الآلاف من جنود الأعداء، لا يرهب بأسهم ولا يخشى صولتهم، وليس له من رفيقٍ إلا السيف ولا من درع إلا الإيمان.
وقف أبو دجانة يوم الحديقة وقد تحصَّن فيها مسيلمة وأصحابه يقول: "ما وقوفكم معشر المجاهدين وعدوكم يجد ما يشاء من طعامٍ وشرابٍ ولا عليه أن تطول بكم هنا الساعات والأيام، فقالوا: ماذا نصنع وها أنت ترى ضخامة الأبواب وعلو الأسوار؟ فقال: "ضعوني فوق الجحفة وارفعوها على أسنة الرماح واقذفوا بي إلى الداخل بحذاء الباب ويكون الفتح إن شاء الله" فأنفذوا رأيه.
وفوجئ مسيلمة وأصحابه بصاعقة تنزل عليهم من السماء، ولم يدعهم أبو دجانة يفيقون من هول المفاجأة، بل أعمل فيهم السيف حتى وصل إلى الباب وتمكَّن من فتحه، وتدفق المجاهدون فكان الفتح.
وكان أبو دجانة وحده بهذا الرأي فرقة "الكوماندو" أمام المهاجمين، وأول مَن هبط "بالباراشوت" على المحصورين، وكان الإقدام والفداء ثمن هذا الانتصار على الأعداء.
أيها المستمعون الكرام:
هذه سنة أسلافكم من قبل. وها أنتم اليوم تدعون لتدفعوا ضريبة الحياة بعد أن اضطركم عدوان العصابات الصهيونية الآثمة على الآمنين من إخوانكم عرب فلسطين وما ارتكبوه معهم من فظائع تقشعر منها الأبدان، إلى أن تهبوا لنجدتهم وتنهضوا لنصرتهم وتؤدوا حق الروابط العزيزة التي تربطكم بهم، وتصونوا مقدسات الإسلام والمسيحية من فظائع هؤلاء المعتدين الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
فبادروا أيها القادرون إلى أداء الواجب كاملا غير منقوص، وابذلوا من مالكم وأرواحكم ومن أعز ما لديكم ما تشترون به كرامة الحياة وشرف الوجود. والله معكم ولن يتركم أعمالكم. وسيكون لكم النصر بإذن الله: ﴿إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران: 160].
أيها المستمعون الكرام:
ليس في العالم منذ فجر التاريخ إلى اليوم قضية أفضل من القضية التي تنتصرون لها، ولا حقَّ أوضح من الحق الذي تطالبون به، ولا ظلم أفدح من الذي تقاومونه، ولا عدوان أفظع من هذا العدوان الذي تقفون في وجهه.
ومهما تجمعت قوى الباطل عليكم وأبت الدول الاستعمارية الطامعة إلا أن تجحد حقكم، وتتنكر لصلتها بكم، وتهول بقوتها عليكم، فإن الله أقوى وأعز وأكبر وأجل، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وليكن جوابنا لهم اليوم ما أجاب به المؤمنون من قبل: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾ (آل عمران)، وستكون عاقبتنا كعاقبتهم ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)﴾ (آل عمران)، ولن يعدو أمرهم هذا الوصف: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ (175)﴾ (آل عمران)، فلا تخافوهم وخافوا الله وحده وعنده النصر وهو ولي التوفيق.
أيها المستمعون الكرام:
|
</TR>
إن هذا الموقف الجديد المجيد الذي تقفونه اليوم يُفرض عليكم أن تصدقوا التوجه إلى الله عزَّ وجل، وأن تسألوه من فضله التأييد والنصر، وأن تستعينوا على ذلك بالطاعة وعمل الخير والبعد عن المنكر والإثم، وأن تزنوا كل قول وعمل بميزان التبصر والحكمة والعقل، وأن تتطوعوا بالإنفاق والبذل، وأن تتجهزوا لمقتضيات القتال والغزو، فمن كان مستطيعًا فبنفسه، ومَن لم يستطع فيجهز غيره، ومَن جهَّز غازيًا أو خلفه في أهله بخير فقد غزا، وإنه لأمر له ما بعده ولن يكون بعده إلا الخير إن شاء الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ومتى دفعتم الثمن فقد ضمنتم الجزاء.. ﴿وَمَنْ أَوْفي بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: من الآية 111). وسلام الله ورحمته وبركاته على المجاهدين الأعزاء ورضوانه ومثوبته وجنته للشهداء الأوفياء.
والله أكبر ولله الحمد.
-------------
* هذا المقال نشر بجريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (632)، السنة الثالثة، 12 رجب 1367- 21 مايو 1948، ص5).